mardi 18 novembre 2014

المرحوم محمد الخامس طيب الله ثراه


محمد الخامس

إذا كانت هنالك شخصية تحتل حتما الصدارة في الحديث كلما طرقنا موضوع التجربة الاستعمارية في المغرب، فهي بالضرورة شخصية السلطان سيدي محمد بن يوسف التي طبعت ببصمات بارزة تاريخ المغرب في القرن العشرين. فقد صعد إلى السلطة دون أن يكون قد استعد لذلك، وحتى دون أن يرغب فيها. وسرعان ما أبان عن مؤهلات سياسية كبيرة جعلته يستوعب، في ظرف وجيز، ما حوله من تطورات متعلقة بالوجود الاستعماري في البلاد وبنشوء الحركة الوطنية.فحمل مشعل الوطنية والتحرير، مما جلب عليه في آن واحد متاعب المناضلين و أكاليل المجد. وإن استحضار مسيرة هذا الرجل منذ تربعه على العرش حتى وفاته لهو إحدى السبل للتأريخ لمسلسل تصفية الاستعمار في المغرب، وللبدايات الصعبة لعهد الاستقلال.
1 - تولية سيدي محمد بن يوسف
في نونبر 1927 ، بينما لم يمر بعد إلا زمن قصير على وضع حرب الريف أوزارها، وتوجيه فرنسا ضغطها العسكري إلى مناطق بالجنوب بغرض إخضاعها، وافت المنية السلطان مولاي يوسف عن سن الخمسين. ولم يكن هذا الأخير، الذي بويع في غشت 1912 خلفا لأخيه المولى عبد الحفيظ بعد تأزم علاقاته مع المقيم العام ليوطي Lyautey ، قد عين أي ولي للعهد ضمن أبنائه الثلاثة. أجل، لقد دأبت بعض الأوساط، بما فيها الصحافة الصادرة في المغرب آنئذ، على ترجيح كفة المولى إدريس، وهو النجل الأكبر، على حظوظ أخويه سيدي الحسن وسيدي محمد. لكن حق البكورية لم يترسخ بعد في تقاليد وراثة الحكم بالبلاد. وأصبح الأمر نظريا، والحالة هذه، بيد أهل الحل والعقد للبث في من يخلف السلطان الهالك وينتخبوا ضمن الأبناء الثلاثة من يتولى إمارة المؤمنين. غير أنه من المعلوم أن نفوذ العلماء قد تقلص كثيرا منذ التوقيع على معاهدة فاس سنة 1912، مما جعل الكلمة الأخيرة في شأن ولاية العهد تؤول إلى الصدر الأعظم محمد المقري وإلى الإقامة العامة التي كان على رأسها طيودور ستيك [2]Théodore Steeg. فوقع الاختيار على سيدي محمد ، المعروف آنئذ بحمادة، وهو أصغر إخوته ولا يتجاوز عمره ثمانية عشرة سنة[3]. فتمت تزكية هذا الاختيار من لدن العلماء وكبار الأعيان. والظاهر أن المقيم ستيك كان يبحث عن سلطان عديم التجربة وضعيف الشخصية، حتى يكون في الخدمة ويوقع الظهائر دون مناقشة فحواها، في حين كان الصدر الأعظم يجد ضالته في شاب يمكن ممارسة الوصاية عليه والحكم نيابة عنه. وفي ظل هذه الأهداف والمناورات بويع السلطان سيدي محمد بن يوسف على عرش أسلافه العلويين يوم 18 نونبر 1927 .
صعد السلطان الشاب إلى حلبة تعوزه فيها التجربة. فأقبل على تعلم أمور السياسة بنهم لافت للانتباه في أوساط الإدارة الاستعمارية، و استطرف البعض ذلك وأثار قلق البعض الآخر.
وعندما أثار ظهير 16 ماي 1930 ، المعروف باسم الظهير البربري، ضجة في البلاد، استوعب السلطان كيف كانت فرنسا تسعى إلى تجريده من صلاحياته و إلى أي مدى أصبحت الإقامة العامة تسير على نهج الإدارة المباشرة منذ نهاية مأمورية المارشال ليوطي. ولم يكن السلطان الشاب يرضى لنفسه بدور رجل الواجهة الذي يقتصر عمله على ترأس الحفلات الدينية، والتوقيع على الظهائر ، وتدشين منجزات سلطات الحماية. ولاسترجاع حقوقه، بادر سيدي محمد بن يوسف إلى التقرب خلسة من رجال الحركة الوطنية ، دون الدخول في مواجهة مع موظفي الإقامة العامة. وهكذا كثف من الإشارات الدالة على تجاوبه مع التطلعات الإصلاحية الوطنية، مثل إصدار قرارات العفو على عدد من أولئك الذين شملتهم أحكام السجن أو النفي بسبب معارضتهم لظهير 1930 . بل إنه استقبل سريا في بلاطه بعض الزعماء الوطنيين، وفي مقدمتهم أحمد بلافريج ومحمد بن الحسن الوزاني، بغرض التشاور والتنسيق. وقد استجابت الشبيبة الوطنية لكل هذه الإشارات القوية، فشنت حملة دعائية ذكية لصالح السلطان الذي صعد بفضلها نجمه ليتبوأ مكانة الرمز في النضال السياسي من أجل الانعتاق. فتجسد هذا الالتحام بجلاء أثناء حملة الوطنيين للمطالبة بتأسيس عيد للعرش، كمناسبة سنوية تتجدد فيها البيعة للعاهل. واحتفل سكان بعض الحواضر بيوم 18 نونبر 1933 عيدا وطنيا، قبل أن تضطر سلطات الحماية إلى الاعتراف به رسميا بموجب مرسوم وزاري مؤرخ في 26 أكتوبر 1934 . وتوفرت فرصة أخرى للوطنيين لإبراز رغبتهم في جعل السلطان رائدا لحركتهم بمناسبة زيارة سيدي محمد إلى فاس في ماي 1934 . فنظموا على شرفه مظاهرات سرعان ما تحولت إلى شعارات مناوئة للاستعمار الفرنسي. وقد كان في ذلك للصحافة الوطنية، وفي مقدمتها جريدة L’Action du Peuple (عمل الشعب) ، الدور الحاسم إذ رحبت ب"العاهلين المغربيين"، وكان المقصود بهما محمد بن يوسف ونجله مولاي الحسن. وذهبت هذه الصحافة إلى نعت هذا الأمير، الذي لم يكن عمره يتجاوز خمس سنواتـ، ب"ولي العهد"، الشيء الذي كان يحمل أكثر من دلالة.
فاجأت هذه الدعاية، وما تبعها من مظاهرات ، السلطات الاستعمارية، فبادرت إلى توقيف الزيارة ومنع عدد من الجرائد الوطنية في 16 ماي 1934 ، وهو التاريخ الذي يصادف الذكرى الرابعة للظهير "البربري". غير أن الإجراءات القمعية لم تعمل إلا على تعزيز مكانة السلطان كعنصر فعال في الحركة الوطنية. ولا أدل على ذلك من كون الوطنيين عندما أقدموا على تقديم مذكرة المطالب للسلطان وللمسؤولين الفرنسيين ، اختاروا أن يوردوا في مقدمتها اقتباسا من تصريح سبق لسيدي محمد بن يوسف أن أدلى به غداة توليته سنة 1927 والذي يتضمن تلميحات تنم عن الفراسة وبعد النظر:
" إن الشعب المغربي ينتظر منا مجهودا مستمرا، لا من أجل تنمية سعادته المادية وحدها، ولكن لنكفل له الانتفاع من تطور فكري، يكون متلائما مع احترام عقيدته ويستمد منه الوسائل التي تجعله يرتقي درجة عليا في الحضارة بأكثر ما يمكن من السرعة"[4]
ومن خلال هذا كان الوطنيون يسعون إلى إبراز انسجام تطلعاتهم مع تطلعات العاهل المغربي، وفي الوقت ذاته تذكير سيدي محمد بن يوسف بالتزاماته.
2 – مواقف السلطان تحت عاصفة الحرب العالمية الثانية
منذ 1936 ، استطاع المقيم العام الجنرال نوكيس Noguès إقامة علاقات ودية و مهذبة مع القصر ، بالرغم مما شابها من غيوم الريب بسبب أحداث بوفكران الدامية وتداعياتها ( خريف 1937 ). وكان ذلك من العوامل التي حددت موقف السلطان عند اندلاع الحرب العالمية الثانية. فمنذ شتنبر 1939 ، وجه السلطان نداء إلى الشعب المغربي طالبا منه الوقوف بحزم مع فرنسا ضد دول المحور:
" فمن هذا اليوم الذي اتقدت فيه نيران الحرب والعدوان إلى اليوم الذي يرجع فيه أعداؤنا بالذل والخسران ، يتعين علينا أن نبذل لها الإعانة الكاملة ونعضدها بكل ما لدينا من الوسائل غير محاسبين ولا باخلين"
وقد رحبت الحركة الوطنية في المنطقة السلطانية[5] بهذا النداء، وجمدت مؤقتا مطالبها الإصلاحية. وعلاوة على ذلك، ساهم موقف السلطان في تشجيع عدد لا يستهان به من المغاربة على الانخراط في المجهود الحربي الفرنسي. ولم يتراجع السلطان عن موقفه هذا حتى عندما أهينت فرنسا بفعل الهزيمة والاحتلال النازي سنة 1940، بل ظل وفيا للعهد طيلة زمن الحرب. لكن، تجدر الإشارة إلى أربع مناسبات لم يساير فيها تماما مواقف الإقامة العامة خلال هذه الفترة:
الأولى: عندما أرادت الإقامة العامة تطبيق القوانين العنصرية التي أصدرها نظام فيشي على اليهود المغاربة، فوقف لها السلطان بالمرصاد. ولم يفت الوكالة الفرنسية للإعلام والصحافة أن تنتبه في إحدى برقياتها إلى هذا " العصيان":
" علمنا من مصادر موثوقة أن العلاقات بين سلطان المغرب والسلطات الفرنسية قد توترت بشكل ملموس منذ اليوم الذي طبقت فيه الإقامة العامة الإجراءات المتخذة ضد اليهود. فقد رفض العاهل التفريق بين رعاياه " المخلصين". ولما اندهش المسؤولون الفرنسيون لهذا الأمر، صرح لهم قائلا: " إن اليهود تحت حمايتي وأرفض أي تمييز بين رعيتي". وقد شكل هذا التصريح المثير موضوع الحديث والتعليق بين كافة السكان الفرنسيين والمغاربة"[6]
الثانية: عندما اختار الجنرال نوكيس مواجهة النزول الأمريكي في المغرب (8 نونبر 1942 ). ولإظهار رفضه لهذا الموقف ، أبى السلطان أن يستجيب لطلب المقيم العام فيرحل من الرباط إلى فاس .
الثالثة: في يناير 1943، على هامش مؤتمر أنفا بين الزعماء الحلفاء ، وقع لقاء بين سيدي محمد بن يوسف والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت دون مباركة الإقامة العامة. وبهذه المناسبة، قام روزفلت بتلميحات ربما أوحت إلى السلطان بمواقف مناوئة للاستعمار الفرنسي. وعن هذه المحادثات، كتب الملك الحسن الثاني بصفته شاهد عيان:
" وفي الواقع أكد الرئيس الأمريكي أن النظام الاستعماري قد عفا عليه الزمن وبالتالي أصبح محكوما عليه بالزوال في رأيه. ولكن تشرشل أكد في البداية على ضرورة التدقيق في وجهة النظر هذه (...). ولكن روزفلت علق حالا على ذلك قائلا: "إننا لم نعد الآن في سنة 1830 ولا في سنة 1912، وتطلع إلى اليوم الذي سيصل فيه المغرب بيسر إلى الاستقلال وفقا لمبادئ الأطلسي، متمنيا أن يكون هذا اليوم قريبا ، يوم أن تضع الحرب أوزارها. وأضاف مؤكدا: بعد الحرب ستصبح إعادة التنظيم السياسي-الاقتصادي للمجتمعات الإنسانية ضرورة ملحة، وقال إن الولايات المتحدة لن تكتفي يومئذ بعدم وضع أية عراقيل في وجه استقلال المغرب فحسب، بل إنها، كما أكد، ستخص المغرب المستقل كذلك بمعونات اقتصادية مناسبة"[7]
الرابعة: في 11 يناير 1944 ، قامت الحركة الوطنية، بتنسيق مع السلطان، بتقديم وثيقة الاستقلال للمطالبة بإلغاء عقد الحماية والاعتراف "باستقلال المغرب ووحدة ترابه تحت ظل صاحب الجلالة ملك البلاد". ومندئذ كانت الدوائر الرسمية الفرنسية ترى في كل مبادرات الحركة الوطنية- خاصة منها التي تصدر عن حزب الاستقلال- أعمالا تتم بإيعاز خفي من سيدي محمد بن يوسف.
لكن كل هذه التطورات لم تجعل السلطان ينقض وفاءه لفرنسا طيلة محنتها زمن الحرب. وقد أبى الجنرال دوكول إلا أن ينوه علنا بنبل هذا الموقف ، في 18 يونيو 1945 ، بمناسبة الذكرى الخامسة لنداء لندن، عندما وشح صدر سيدي محمد بوسام رفيق التحرير، وهو تشريف فرنسي قلما فاز به زعيم دولة أجنبية. وكان دوكول قد التقى للمرة الأولى بالعاهل المغربي في الرباط في غشت 1943 ، واحتفظ عن الرجل بارتسامات ملؤها التقدير والإعجاب[8].
3 – القطيعة بين القصر والإقامة العامة
في سنة 1947 ، سنحت الفرصة للمناوئين للسلطان، في الإدارة الاستعمارية كما في جالية المعمرين، لتصعيد حملاتهم المغرضة ضده. ذلك أن سيدي محمد بن يوسف قد تعمد في خطابه بطنجة (9 أبريل) إغفال العبارات البروتوكلية المنوهة بدور فرنسا في المغرب والتي جرت العادة أن يختتم بها خطبه، للتعبير عن استيائه لما اقترفه "الجنود السينغاليون" من بطش في الدار البيضاء يوم السابع من أبريل. وفضلا عن ذلك، فإنه ظهر من الخطاب ذاته أن السلطان قد اختار وضع المغرب ضمن أسرة الجامعة العربية، وهو الشيء الذي ما فتئ الغلاة الاستعماريون ينددون به منذ ميلاد هذه المنظمة. وأخيرا، فإن الأوساط ذاتها قد أولت جميع التصريحات التي أدلى بها، على هامش الزيارة السلطانية إلى طنجة، كل من الأمير المولى الحسن والأميرة للاعائشة (بوجهها السافر) على أنها انحياز متعمد إلى أطروحات الحركة الوطنية. وقد أسفرت كل هذه العوامل عن أزمة سياسية دفع ثمنها المقيم العام إيريك لابون Eirik Labonne ، الذي لم تكن الأوساط الفرنسية اليمينية راضية على سياسة الانفتاح التي سلكها تجاه الوطنيين المغاربة. فخلفه في الرباط الجنرال ألفونس جوان Alphonse Juin(14 ماي 1947) الذي بادرإلى تصعيد لهجة الإقامة العامة ضد كل من القصر وحزب الاستقلال. وبموازاة ذلك، اندلعت حملة دعائية بغرض الإساءة إلى سمعة السلطان. فالجريدة الباريسية لاباطاي La Bataille تجاسرت على سيدي محمد بن يوسف مدعية بأن فرنسا ولية نعمته وألا شأن له دونها[9]. ولما لم يشف هذا القذف غليل المناوئين للسلطان، فإنهم أقدموا على توزيع مناشير باللغة العربية للتشكيك في أصوله الشريفة (أواخر 1947). وقد تبين لاحقا أن بعض كبار موظفي الإقامة العامة لم يكن غريبا عن هذه الحملة.
إذا كان المقيم العام الجديد قد زود بتعليمات من الحكومة الفرنسية مفادها جعل السلطان يقبل بإصلاحات بنيوية كفيلة بتيسير تطور المغرب نحو استقلال ذاتي، فإن للرجل تصور خاص فيما يتعلق ببلوغ المراد:
"بالتأكيد، لا حاجة إلى الإصلاح. ولكن نحن في حاجة إلى إصلاحيين، إلى قطاع متخصص في الإصلاحات وإلى رجال يدرسون الإصلاحات إلى ما لا نهاية"
وأيضا قوله:
" الإصلاحات! سنتحدث عنها بعد خمسة وسبعين سنة"[10]
وسلك الجنرال جوان سياسة الترهيب والوعيد تجاه السلطان، مهددا إياه بالعزل في حالة عدم الرضوخ لتوجيهاته. وكان المقيم العام يبرر هذا الموقف بكونه تسلم تعليمات في هذا الاتجاه في ماي 1947 من كل من رئيس الوزراء الفرنسي بول راماديي Paul Ramadier و وزير الخارجية جورج بيدو Georges Bidault ، في حالة عرقلة القصر لمشاريعه[11]. والواقع أنه لم يسبق لمثل هذه التعليمات أن نوقشت في مجلس الوزراء الفرنسي، وأن نالت قبول رئيس الجمهورية. لكن الجنرال جوان دأب على الادعاء بأنه مفوض كامل التفويض، وتصرف بناء على ذلك مثل " البارون الفيودالي الذي يعتقد أن على الدولة التي عينته في منصبه أن تترك له جميع الصلاحيات في إقطاعيته"[12]
تعددت مناسبات الخلاف بين الإقامة العامة والقصر في الفترة الفاصلة بين 1947 و 1950. وكان جوان، كلما تأزمت العلاقات بين الطرفين ، يتهم السلطان بنهج سياسة حزب الاستقلال ويتصرف نحوه تصرفات مهينة تهدف إلى الاستحواذ على جميع صلاحياته. وكانت كل مشاريع "الإصلاحات" الصادرة عن المقيم العام ترسخ مزيدا من الإدارة المباشرة المنافية تماما لروح الحماية كما هي متضمنة في عقد فاس لسنة 1912. وفي الوقت ذاته أصر جوان على تجاهل كل المشاريع الإصلاحية التي كان القصر يقترحها بتنسيق مع الحركة الوطنية.
وفي هذا المناخ المتأزم قام السلطان بزيارة لفرنسا في أكتوبر 1950، وهو الحدث الذي أولته الصحافة الفرنسية اهتماما بالغا يمكن من الإحاطة بالصورة التي كانت تروجها عن العاهل المغربي في زمن الأزمة المغربية الفرنسية.
4 - صورة السلطان في مرآة الصحافة الفرنسية
لا يمكن فصل صورة السلطان في الصحافة الفرنسية عن الأزمة التي كانت تعرفها العلاقات المغربية-الفرنسية. ففي أكتوبر 1950 ، بينما كان سيدي محمد بن يوسف يقوم بزيارته لفرنسا، كانت معظم الجرائد الفرنسية تمجد الصداقة بين المغرب وفرنسا. فبعبارات الاحترام تم تقديم صورة ذلك الرجل الذي أبى الجنرال دوكول إلا أن يوشح صدره بوسام رفيق التحرير. فحتى يومية لورور L’Aurore ، المعروفة بمواقفها الاستعمارية المتشددة، لم تبدأ بعد حملتها ضد سيدي محمد بن يوسف الذي تعتبره " سلطان حزب الاستقلال"، فمراسلها الخاص في مدينة بورضو Bordeaux التي حل بها العاهل في مستهل زيارته، عنون إحدى مقالاته كالتالي:
"استمال سيدي محمد بن يوسف في ساعات معدودة قلوب سكان بورضو"
ومع ذلك، فإن بعض الصحف الشغوفة بغريب الأخبار، وفي مقدمتها فرانس سوار France-Soir ، لم يلفت انتباهها من الزيارة السلطانية إلا ما تعلق بالحياة الخاصة للعاهل ، وبمعتقداته الدينية، وبتقاليده وعاداته في الملبس والمأكل...وتم ذلك في أسلوب هزلي كان الغرض منه تسلية القراء أكثر من إثارة حفيظتهم ضد ضيف فرنسا.
وبمرور الأيام تقلصت مساحة اللباقة البروتوكولية لتطفو على سطح المادة الخبرية مسألة الإصلاحات التي من أجلها شد السلطان الرحال إلى الديار الفرنسية. وقد لاحظت لورور ذلك منذ 25 أكتوبر 1950 عندما كتبت:
"لم يأت السلطان إلى فرنسا لمجرد تبادل النخب وقنص التدرج"[13]
ولما بدأت الصحافة تعلق على المطالب الإصلاحية المغربية، كادت تجمع نعت السلطان بحليف حزب الاستقلال. وبالتالي، فكلما ازدادت أزمة العلاقات المغربية الفرنسية توترا، كلما تفننت هذه الصحافة في تقديم صورة سلبية عن السلطان. ففي فبراير 1951 ، عندما أصدر جوان الأوامر لمحاصرة الرباط ، مهددا السلطان بالإقالة، صفقت معظم اليوميات الباريسية لذلك الإجراء. فحتى جريدة لوموند Le Monde، المشهورة باعتدالها، باركت عمل الجنرال جوان واصفة إياه " بالرجل الحكيم والمتبصر، الذي ينتمي إلى ذلك الجنس من الرجال الذين يعرفون كيف يحكمون الآخرين". وعلى العكس من ذلك، فسلطان المغرب، حسب المصدر نفسه، من أكبر السلاطين استبدادية وطيوقراطية في العالم[14].
وتحت ضغوط شتى، فضل سيدي محمد بن يوسف التظاهر بالانصياع لرغبات الإدارة الاستعمارية، فقبل التوقيع على ظهائر كان قد رفضها من قبل، كما ندد ببعض الأحزاب دون التصريح باسمها. ولم يخف على الملاحظين أن السلطان كان عرضة لأقسى الإكراهات.
وفي دجنبر 1952 ، بعد أن شهدت الدار البيضاء أحداثا دامية، وتحدثت الأطروحة الرسمية عن مؤامرة مدبرة من لدن الاستقلاليين والشيوعيين، تعرض السلطان مجددا لضغوط قوية بغرض التنديد بحزب الاستقلال. وكلما امتنع عن ذلك، كلما ازداد تجاسر الصحافة الفرنسية عليه ناعتة إياه ب"سلطان الكريان سنطرال". فتسارعت وتيرة الأحداث حتى أقدمت الإقامة العامة على عزل السلطان ونفيه إلى كورسيكا، ثم مدغشقر. فطرحت إثر ذلك مسألة العرش لتزيد أمر الأزمة المغربية-الفرنسية تعقيدا.
لم يحقق إبعاد السلطان رجاء من دبروا المؤامرة. بل على عكس آمالهم، حدث "انفجار الأسطورة" حول شخصية العاهل المنفي إذ غيابه عن العرش إنما عزز حضور في القلوب وتألق نجمه إلى درجة لم يسبق لها مثيل. فقد اضطرت الشرطة إلى التدخل لتفريق جماعات تجمهرت بغرض ترقب البدر في عنان السماء لعلهم يرون فيه السلطان على صهوة جواده. وقد أوردت لورور L’Aurore الخبر أربعة أيام بعد نفي سيدي محمد، دون أن تتمكن من فرز الدلالة الكلمنة في هذا المعتقد الشعبي وفي أبعاده السيكولوجية.
ولما شعر المقيم العام الجنرال غليوم بخطورة "الأسطورة اليوسفية" عليه وعلى من حالفوه في مؤامرة 20 غشت 1953 ، عبأ كل الوسائل الممكنة من أجل هدمها، كما عمل على إبعاد السلطان إلى منطقة نائية لأنه لا يطمئن إلى وجوده غير بعيد عن الشواطئ المغربية. وتم نسج خيوط مناورة تمثلت في إقناع كل من الرأي العام الفرنسي والحكومة الفرنسية بأن سيدي محمد ونجله مولاي الحسن يشكلان خطرا على فرنسا. فاتهمت بعض الجرائد الأمير بتدبير الأحداث التي وقعت في وجدة يوم 16 غشت 1953 ، وروجت صحف أخرى أخبارا مفادها أن كوماندوس يستعد للانطلاق من مصر بواسطة مروحية بغرض مساعدة الأمير مولاي الحسن على الهروب من كورسيكا حتى يؤسس حكومة مغربية في المنفى[15].
ولم يمر إلا زمن يسير حتى تم ترحيل السلطان وعائلته من المنفى القريب (كورسيكا) إلى المنفى السحيق ( مدغشقر)...بعيدا عن الوطن. ولم تهدأ مع ذلك الحملات الإعلامية الرامية إلى تشويه صورة العاهل وأهله. ولعل أهم حملة استهدفت النيل من شرف السلطان وهو في منفاه تلك التي اتهمته بموالاة الرايخ الثالث إبان الحرب العالمية الثانية. ففي أكتوبر 1953، نشرت فرانس سوار صورا لما اعتبرته وثائق من شأنها إدانة السلطان بالتعامل مع ألمانيا النازية. وقد تلقفت جرائد عديدة، خاصة منها المعبرة عن مصالح المعمرين، النبأ فروجت له على نطاق واسع، مطالبة بمحاكمة سيدي محمد بن يوسف.
وفي 30 يونيو 1955 ، طلب من الجنرال دوكول أن يدلي برأيه في الموضوع أثناء ندوة صحفية، فقال:
" دعوني أرفع كتفي استهزاء. فالسلطان قد رفض كل الالتماسات الموجهة إليه (...) إنه رفيق التحرير "[16]
وبعد مرور عشرين سنة عن استقلال المغرب، علق الملك الحسن الثاني على تلك الاتهامات قائلا:
"لقد قام الدليل على أن الوثائق التي نشرت بعد الحرب عن الاتصالات المزعومة بين السلطان والطليان والألمان كانت مزورة تزويرا مفضوحا في أحد مكاتب الحماية"[17]
والظاهر أن هم فرانس سوار ولورور، كما هو الشأن بالنسبة للصحافة الاستعمارية الصادرة في المغرب، لم يكن أبدا البحث عن حقيقة تاريخية بقدر ما هو سعي إلى الإساءة للسلطان المنفي وإلى الحركة الوطنية المناضلة من أجل الاستقلال. بل تجدر الإشارة إلى أن مصادر تلك الدعاية لم تكن تجد حرجا في الانتقال من سجل "ابن يوسف" كعميل للنارية إلى سجل "ابن يوسف" كعميل للشيوعية!!
و كان مثل هذا الادعاء المفتقر إلى أدنى منطق يصدر أساسا من لورور، وفي درجة ثانية من فرانس سوار. أما الصحف الباريسية الأخرى فقد كانت على العموم أكثر تحفظا في ترويج ما يسيء للسلطان المنفي دون سند. ولا يخلو من فائدة الإشارة إلى كون لومانيتي L’Humanité ، الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي، أخذت تتحدث ابتداء من غشت 1953 عن سيدي محمد بن يوسف كسلطان شرعي، وعن ابن عرفة كدمية للاستعمار.
5 – محمد الخامس: ملك المغرب المستقل ( 1956- 1961)
لقد توجت محنة المنفى سيدي محمد بن يوسف بتاج المجد، وعندما رجع مظفرا إلى الوطن في نونبر 1955 تحقق شبه إجماع حول شخصه. واقترن العهد الجديد باستبدال لقب السلطان بلقب الملك ذي الدلالة العصرية ، سيرا على سنة بعض الأنظمة الملكية في الشرق الأوسط. وبموازاة ذلك، وللأسباب ذاتها، تم التخلي عن " الإمبراطورية الشريفة" لصالح " المملكة المغربية"، وأسفر ذلك عن تعزيز النظام الملكي في البلاد. وكانت الفرصة مواتية للملك محمد الخامس للأقدام على تعيين الأمير مولاي الحسن وليا للعهد. ومع ذلك، فقد تطلع العاهل منذ فجر الاستقلال إلى حياة ديموقراطية وإلى مؤسسات دستورية وعصرية. لكن تضافر عدة عوامل داخلية وخارجية أثقلت مسيرة المغرب المستقل نحو الهدف المنشود. ومع ذلك، شكلت التعددية، بالرغم من بعض الخروقات هنا وهناك، اختيارا سياسيا جوهريا جعل المغرب يتفادى التجارب المؤلمة للحزب الوحيد الذي كان آنئذ موضة في البلدان الحديثة العهد بالاستقلال.
وفي مجال السياسة الخارجية، انضم المغرب إلى كل من الجامعة العربية ومنظمة الأمم المتحدة، كما نشط في صفوف كتلة عدم الانحياز. وعندما تطلعت إفريقيا إلى التنسيق وجمع الشمل، بادر إلى احتضان مؤتمر الدار البيضاء سنة 1961 وكان بذلك أحد المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية.
أما فيما يخص العلاقات مع فرنسا، فقد تكدرت في أكثر من مناسبة بسبب عوامل عديدة، نذكر منها: استمرار وجود فرق عسكرية في المغرب، وعمليات جيش التحرير في الجنوب، وقضية عدي أوبيهي، واصطدام مصالح الجالية الفرنسية بتوجهات المغرب المستقل...وأساسا قضية الجزائر . فالسلطان لم يخف أبدا تعاطفه مع نضال الشعب الجزائري من أجل الاستقلال، وهو موقف لم تغفره له الحكومة الفرنسية. وفي أكتوبر 1956، استقبل الملك محمد الخامس رسميا في الرباط بعض قادة جبهة التحرير الوطني في تحد واضح للضغوط الفرنسية. وعلى إثر هذه الزيارة، بينما كان القادة الجزائريون متوجهين جوا إلى تونس حيث كان من المقرر أن يلتحق بهم السلطان للمزيد من التنسيق حول القضية الجزائرية، أقدم الجيش الفرنسي على احتجاز الطائرة ومن كان على متنها، فشعر محمد الخامس بإهانة تركت أثرا سيئا على العلاقات المغربية الفرنسية لمدة من الزمن.
وفي 26 فبراير 1961 ، التحق العاهل المغربي بالرفيق الأعلى على إثر عملية جراحية، فخلفه على العرش ابنه الملك الحسن الثاني الذي دشن صفحة جديدة من تاريخ المغرب المعاصر.

0 commentaires: